قراءة فيما أسماه البنك المركزي بإصلاح وتعميق سوق الصرف / أمم ولدانفع

الفكرة في اتخاذ قرار بِتحريك أو ترك سعر صرف الأوقية لقانون العرض والطلب كُلياً، في وجه آفاق اقتصادية واعدة، ليست بالسيئة من الناحية الاقتصادية على المديين المتوسط والبعيد،  كما تعزز أيضاً من ثقة  المستثمريين والمموليين في الاقتصاد الوطني خاصة صندوق النقد الدولي، الذي تم تكليفه بضمان استقرار أسعار صرف العملات العالمية بدءً بسنة 1944 ( مؤتمر بروتن وودز)، والإشراف فيما بعد على تنفبذ سياسة تحرير أسعار صرف العملات العالمية مباشرة بعد  سقوط نظام الذهب سنة 1971 (صدمة نيكسون)، لكن قرار البنك المركزي الصادر  سواءً كان متعلقاً بتحريك أو تحرير كلي لسعر صرف الأوقية، يدق ناقوس الخطر بالنسبة للمواطن البسيط، نظراً لما قد  يترتب عنه على المدى القصير من تراجع في القوة الشرائية، وارتفاع في  الأسعار، وتآكل في قيمة المدخرات المنزلية والبنكية، مع العلم أن البنك المركزي أبقى أسعار الفائدة دون تغيير خلال اجتماع مجلس السياسة النقدية  المنعقد  بتاريخ 18/12/2023 أي بعد 4 أيام من صدور ذلك القرار.

 

تحدثت من خلال الفيسبوك في  فيديو سابق عن أنواع سياسات أسعار الصرف المعتمدة من قبل البنوك المركزية العالمية؛ وفي ظل شُح المعلومات الرسمية المتوفرة في هذ الخصوص،  رجحت يومها أن تكون الأوقية محررة جزئياً وذلك من خلال تحديد هامشِ مٌعين تتحرك فيه الأوقية  هبوطاً أو صعوداً قبل اتخاذ قرار التدخل المباشر في سوق الصرف من جهة البنك المركزي، دعماً للأوقية أو العكس، حسب البيئة الاقتصادية المحيطة، على الرغم من أن هذه السياسة قد تشكل ضغطاُ إضافياً على احتياطيات البنك المركزي من العملة الصعبة، وهي أيضاً غير مستدامة أثناء دورات الأزمات واللايقين التي سيطرت على المشهد العالمي في السنوات الأربع الأخيرة.

 

لٍذلك استبعدت حينها أن تكون الأوقية محررة كلياً: كأن تكون متروكة لقانون العرض والطلب؛ لأن اعتماد تلك الآلية  يُعتبر مجازفة  في اقتصاد لديه فجوة خارجية: تتمثل في عجز قائم  على مستوى ميزان المدفوعات ( حجم العملة الصعبة الخارجة من البلد يَتجاوز حجم العملة الصعبة الداخلة بتجاه البلد ) منذ عقود طويلة، حيث يظهر  ذلك العجز جلياً في الميزان التجاري ( الفرق بين الصادرات والوارد.ات) الذي، يشكل بدوره الثقل الأكبر في تركبة ميزان المدفوعات؛  ما تطلب إعطاء قوة مفتعلة للأوقية إن صح التعبير؛ من أجل تقويض أثر الطلب القوي على العملة الصعبة والمقصود هنا بالعملة الصعبة هو الدولار الأمريكي، الذي يستحوذ على مابين 80 و%85 من معاملاتنا الخارجية.

 

وعليه فإن تحريك  أوتحرير سعر صرف  عملة وطنية ما يتطلب: أولاً تصحيح التشوهات الحاصلة في  النسيج الاقتصادي، عن طريق  العمل على تأسيس قاعدة اقتصادية قوية، تتمتع بالأساسيات اللازمة، لِتوطين الواردات (تحقيق الاكتفاء الذاتي) وخلق صناعات تحويلية على مستوى الصادرات ذات الطابع الخام، كما هو موجود في الحالة الموريتانية؛ لٍلحيلولة دون  الاستمرار في تصدير القيمة المضافة نحو الاقتصادات الأخرى كالصين والمنطقة الأوربية، التي تَتصدر قائمة الشركاء التجاريين لِموريتانيا كما هو واضح في  التقارير الفصلية والسنوية للتجارة الخارجية، الصادرة عن الوكالة الوطنية للإحصاء والتحليل الديمغرافي والاقتصادي.

 

إذا كان توقيت إعلان القرار مرتبط أساساً بوجود برامج إصلاح اقتصادي ومالي مُوقعة للتو مع صندوق النقد الدولي ولٍفترات مختلفة، إلا أن هناك عوامل خارجية ربما أعطت الضوء الأخضر للسلطات الموريتانية بإمكانية الشروع في تنفيذ ما وصفته بالإصلاح البنيوي لسوق الصرف مثل: ضعف أداء الدولار الأمريكي سنة 2023، انخفاض أسعار الغذاء والنفط في الأسواق العالمية ( انحسار التضخم )، واحتمال دخول الفدرالي ( البنك المركزي) الأمريكي في مسار تخفيض الفائدة ابتداءً من  الفصل الأول من هذ العام،  يُضاف إلى ذلك عوامل أخرى داخلية  لاتقل أهمية عن تلك الخارجية، لما لها من دور في الوقت الحالي وربما مستقبلاُ في توطين الواردات من جهة وزيادة وتنويع الصادرات من جهة أُخرى؛ وهي أمور يحتاجها الاقتصاد الموريتاني، للتحول من العجز على مستوى ميزان المدفوعات إلى الفائض أو التوازن على أقل تقدير؛ ما سيمنح الأوقية القدرة أو المناعة الكافية للتكيف مع الأثر الرجعي الذي قد يترتب عن القرار.

 

في جانب توطين الواردات، وأخص بالذكر المواد الغذائية والمحروقات التي تشكل البنديين الأكبر في فاتورة الواردات، فقد تم  توجيه موارد مالية معتبرة خلال السنوات الماضية بهدف تكثيف الاستثمار بشقيه العمومي والخصوصيي في قطاعات الزراعة، الثروة الحيوانية  والطاقات المتجددة؛ وهو مامكننا اليوم من الوصول إلى تغطية حاجياتنا من الأرز والخضروات والألبان بنسب 89 و 24 و %30 توالياً، في حين بات البلد يُنتج حالياً  %48 من طلبه على الكهرباء من مصادر ذاتية متجددة؛ وذلك بعد تدشين محطة بولنوار الهوائية منذ أيام قليلة؛ ما مَنح في المجمل مجالاً أمام السلطات الموريتانية، للتعاطي مع أزمة الطاقة والغذاء التي ضربت الاقتصاد العالمي بداية 2022  عقب اجتياح روسيا لِأوكرانيا.

 

بخصوص زيادة وتنويع الصادرات، وبعد سنوات عديدة من الاعتماد على المعادن والصيد كرافديبن أساسيين للعملة الصعبة، دون القدرة على رفع كمية الإنتاج خاصة فيما يتعلق  بالحديد الخام، استطاعت شركة SNIM سنة 2023 تحقيق سقف إنتاج قدره 14 مليون طن، مُسجلة بذلك أول زيادة في الإنتاج منذ تأميمها سنة 1974، وقد تزامنت  هذه الزيادة التاريخية في إنتاج أحد أهم وأقدم  محركات الاقتصاد الموريتاني، مع استعداد البلد لإنتاج وتصدير الهيدوجين الأخضر والغاز الطبيعي المسال وبكميات جد تجارية؛ بٍفضل حزمة  مشاريع واعدة تجاوز غلافها المالي المعلن عنه حاجز ال 100 مليار دولار أمريكي ( أكثر من 10 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الحالي )، حيث تندرج هذه المشاريع ضمن جهود عالمية حثيثة، للحد من الانبعاثات الكربونية الضارة بالبية، مايعني أن موريتانيا من الدول النامية القلائل التي ستحول بإذن الله  نقمة التغير المناخي إلى نعمة تضمن تحقيق التوازنات الاقتصادية الكبرى. الداعمة لاستقرار سعر صرف الأوقية وبأدوات أكثر استدامة.

 

وفي ذات السياق، يخطط البلد في غضون أشهر قليلة لِتسويق، أول شحنة غاز مسال من حقل آحميم الكبير المشترك مع الجارة السنغال، ذلك الحقل الذي تقدر عائدات موريتانيا منه في المتوسط ب 1 مليار دولار سنوياً طيلة العمر الافتراضي للمشروع؛ مبلغ يكفي لوحده حسب معطيات وأسعار صرف اليوم، لٍسد الفجوة الحاصلة على  مستوى ميزان المدفوعات، والمقدر في المتوسط خلال السنوات  الأربع الأخيرة ب 336 مليار اوقية قديمة، وهي وضعية لاشك ستجعل الأوقية الموريتانية حِسابياً تتخطى شبح التحريك أو التحرير الكلي؛ بعد أن تنتعش احتياطيات البنك المركزي من العملة الصعبة، وتتحول الميزانية العامة للدولة التي تتمتع حالياً  بمديونية خارجية متوسطة من العجز إلى الفائض الدائم.

 

وعلى العموم ستبقى استفادة الأوقية من الطفرة المتوقعة في مجال الغاز مرهونة بمامدى كفاءتنا في تسيير تلك العائدات النقدية المباشرة، وبمامدى جاهزيتنا أيضاً لِدمج الغاز المُصنف على أنه الوقود الأحفوري الأنظف والأكثر كفاءة ، في المنظومة الاقتصادية؛ بُغية التحكم وللمرة الأولى في تكاليف الإنتاج،  والانتقال إلى الصناعات الأخرى التحويلية في قِطاعات:  الزراعة، الثروة الحيوانية، الصيد والمعادن التي نمتلك فيها ميزة نسبية؛ وهذا بالضبط ما كانت تبحث عنه الأوقية لاحتواء تداعيات التحرير والذهاب ربما إلى مرحلة التثبيت إذا دعت الحاجة لٍذلك، بشرط التأكد من أن الغاز  لعب دور الرافعة بالنسبة للقطاعات الأخرى السابقة الذكر؛ لأن التثبيت  الغير مٌحكم للأوقية المعتمد في  الأساس على وفرة محتملة للدولار من مصدر واحد كالغاز مثلاً، سيؤدي دون شك إلى تشجيع الواردات  وقًتل الإنتاج المحلي سواءً كان موجهاً  للأسواق المحلية أو الخارجية؛ ما قد يفاقم  من هشاشة الاقتصاد الموريتاني ويعمق من جراحه الناجمة عن إصابته القديمة بما يعرفه الاقتصاديون بالداء الهولاندي.

 

وفي انتظار أن يتحقق ما تقدمنا به من استشراف لِمسار الأوقية مٌستقبلاً، فإننا ندعوا أيضاً جميع الوكلاء الاقتصاديين خاصة الأفراد والأسر،  بضرورة التحوط من خلال زيادة الإنتاجية،  ترشييد الاستهلاك،  وتوزيع المدخرات إن وجدت بين العقار، الأوقية، العملة الصعبة والذهب، لأن المرونة مطلوبة في هكذا أوقات، ريثما تتضح الصورة الكاملة لِلمشهد.