اسمحوا لي بادئ ذي بدءٍ أن أهنئ نفسي على "الإنجاز" الذي قمت به، وهو "وصل انواكشوط بطنجة في نصف يوم". فعند وصولي إلى "طنجة" كان علي أن أنتظر مرور موكب صاحب الجلالة بعض الوقت. وفي تلك الأثناء حدثني "دركي" أنه يعرف الموريتانيين وأنه أكل معهم "الفلكة" عدة مرات، عندما كان يعمل في منطقة "أغادير"، ثم أردف صاحب سيارة أجرة سيلاً من المديح في حق لحم الإبل وفوائد الجمة. وهكذا تأكد لي أنه لا يمكن النجاة من الحديث عن "ما يؤكل" في أجواء "الزيارات" حتى ولو كان ذلك في طنجة أو اصويرة. ذلك أن الأكل أصبح خطابا سياسياً شاملاً.
يقول سافارين أن "مصير كل شعب مرتبط بطريقة غذائه" وأن "اكتشاف طبق جديد أكثر أهمية للجنس البشري من اكتشاف نجم جديد" ولأنه لم يقل أنه مع النجمة هلالاً فلسنا معنيون بفلسفته "المرجلية" هذه. ولن أجازف بتحديد مالذي يأكله الموريتانيون اليوم، إنما سأكتفي بالقول أنه عند موت هذا "السافارين" سنة 1826 كانوا حسبما يحكي رينيه كاييه (ولد كيجة) في سرده لرحلته إلى تينبكتو سنة 1830 يعيشون على "أز" أو الأرز البري كما نسميه، وإذا كان مصيرنا سيكون مشابها لهذا الأرز البري الذي ينبت عند جذوع الأشجار وله ذلك اللون والطعم الذين تعرفونه ربما، فإنني أقترح أن نبحث لأنفسنا ابتداءً من الأن عن مصائر أخرى غير التي تنتظرنا.
ولنعد الأن بعد تلك المقدمة إلى الزيارات الرئاسية إلى الداخل وكل الطقوس التي ترافقها، فقد قررنا تسميتها بالزّورات للطابع غير العادي الذي تكتسيه. إن الطقوس "الزوراتية" كما يبدو، هي أهم ما أضاف الرئيس الحالي إلى الثقافة السياسية الموريتانية كما أننا يمكن أن نقارنه بـ "كاياماغان" ملك غانا الذي كان منذ 1000 عام يمضي وقته متجولاً بين قرى ومدن مملكته، وكان يطلق على كل بلدةٍ يحل بها اسم غانا طيلة مقامه فيها، إلا أننا لم نقرر بعد إطلاق اسم انواكشوط على كيهيدي ومونقل ومقامة أثناء مرور الرئيس بها ليوم أو ليلة.
وككل طقس فإن للزيارة كاهنا وهو الرئيس، ومذبحا وهو المنصات المقامة بالمناسبة، وأدعية سحرية (كهربة المدن الـ 13، دومسات، 12/12) وتعاويذ (الماء الشروب، المعرفة للجميع، العولمة) وآلهة (الانترنت في كوركول، الممولين في الحوض) وسدنة المعبد (الوالي، الوزراء، البروتوكل) وطبعا هناك "التلاميذ" وهم كافة أنواع الناس من رجال أعمال، وعاطلين، وأمهات أسر، والمطلقات والشعراء، والشباب، والشيوخ، والمداحين والموظفين، وهكذا أصبح الرئيس يجر معه بلاطا ضخما خلال "زوراته" حتى أن الكثيرين يرون أن كل هذا مجرد مظهر من مظاهر سياسة البطن، وهي أصبحت السياسة الغالبة، فكل سياسة تبدأ من البطن وتنتهي إليه.
بعد أن كان الحديث عن الأكل والبطن محظوراً في الماضي، أصبح اليوم مسموحا به، بل محببا وعلامة انفتاح اجتماعي، بل نوعا من "البيعة" لنظام صار الحديث فيه عن أي شيء خيراً كان أو شراً ممنوعا إلا عن موضوع المأكولات.
أثناء زيارة كوركول تمت رسمياً مباركة هذه السياسة "المرجلية" عندما تحدث الرئيس، وأكد على أهمية زراعة البطاطس والبصل، وبعد هذا الخطاب أدمج البصل والبطاطس في كافة الوجبات، وحتى أن جريدة الشعب، خرجت علينا في صدر صفحتها الأولى بصورة مكبرة للبطاطس، وبدأت التلفزة نشرتها المسائية بافتتاح ملتقى في روصو حول تحسين زراعة البصل والبطاطس، وذلك كما هو معلوم طبقا للتوجيهات النيرة لفخامة رئيس الجمهورية معاوية والتي ينصحنا فيها بأن نهتم ببصلنا وبطاطسنا.
عندما كنت صغيراً كنت ككل الأطفال في سني آكل التراب لأنه لم يكن هناك غذاء بديل عنها للأطفال في ذلك الأوان، وكان الأباء يحاولون منعنا من ذلك، وبمجرد نظرة إلى الخريطة الموريتانية نرى أنها معركة خاسرة سلفا، وهكذا كبرت وكبرت معنا فكرة بسيطة، وهي أننا يمكن أن نعيش دون أن نأكل كثيراً، وأن عملية الأكل لا تحتاج إلى الكثير من الصحة، أو حتى أنها عملية مخجلة يجب الكف عن تضخيمها، أو أنه من الملائم كتمانها حتى وإن كان للأمعاء رأي أخر في بعض الأحيان.
وهكذا لقنَ الأطفال في سن مبكرة دروساً عن ما "لا يؤكل" فالأكل ليلاً ممنوع، والأكل صباحا ممنوع، والأكل مع الكبار ممنوع، والامتناع عن العشاء يزيد في الطول، وأن أكل الكبد خاص بالنساء، وأكل القلب خاص بالشيوخ، وأكل المخ يورث الوقاحة، وشرب الشاي غير لائق، وأكل "المصارين" خاص بمن سلخ الشاة، وحتى "الطحال" ذلك العضو الضائع في صوان البطن حرموه على الأطفال، لأنه "لا يأكله من كان أبوه حياً" لئلا يتهم بأن له نوايا عقوقية، وهكذا طالت لائحة ما "يؤكل" وأصبح جلياً أنه لم يبق الكثير مما يمكن أكله، كما أن مما "لا يؤكل" أيضاً الفواكه والخضروات لسبب بسيط هو أنها غير موجودة، أو على الأقل حيثُ كنت أعيش أنا.
عندما قدر لي في سن العاشرة أن أرى أول خضروات كانت البطاطس أول ما رأيت، كانت تقدم في الطبق الخالد "بنافة" وكانت آنذاك مخصصة للمرضى، أما أنا فكنت بصحة جيدة، ولما كان الأباء يريدون صحة جيدة لأبنائهم فقد كانوا يدربونهم على تحمل الجوع لأنه يعلم التحمل، وما كان أحوجهم للتحمل في هذه الشمس الحارقة والرياح اللافحة التي تقذف بها الصحراء باستمرار، ومسلسلات لا تنقطع من الطفولة، إلى ضرب المعلم على الرأس وعلى اليدين، إلى رفس الحمير على البطن، إلى لسعات العقارب والحيات الصحراوية، إلى المحفوظات الدراسية والمعلقات الجاهلية، إلى "نزوات" زوجة المعلم العجوز التي تبعثك كل يوم إلى صاحبتها في الطرف الأخر من الحي لترسل لها ابرة أو سلكا أو قطعة مرآة، وعندما تأتيتها تتظاهر بأنها لم تسمعك ولم تراك.
وباختصار، فإذا كان الجيل الذي عاصرته قد نجا من كل تلك المآسي والنكبات فذلك لأنه ولد ميتا بما فيه الكفاية، وكان مدرباً بعد ذلك على العيش بين الموت والحياة، وعندما كبرنا تحسنت علاقات بالطعام على مقدار تحسن الطعام نفسه، إلا أننا احتجنا للكثير من الوقت حتى نستطيع التلفظ بعبارات من قبيل "أنا جائع" ، "هل هناك ما يؤكل"، "أكلنا اليوم كثيراً" تلك العبارات التي كانت محظورة من قبل، ومازلت أحتفظ ببعض "المعتقدات" المترسخة من تربيتي "القاسية" ولإعطاء فكرة عن علاقتي بـ "ما يؤكل" أقدم هنا حسب الترتيب الأبجدي قاموسا صغيراً لوجبات جيل حرم على نفسه أن "يجوع" أو "يعطش".
بـ - بنافة: بنافة، هي اللحم والبطاطس وأخيراً وهو الأهم الخبز، يتم غمس قطعة من الخبز في المرق وسحق قطعة بطاطس في الطريق، هكذا عفوياً. إن غمس قطعة الخبز هذه في المرق هو فن فريد، وإحدى تلك الأشياء الصغيرة -ظاهريا- والتي تمثل في الواقع شخصية الأمة بأكملها، ولقد مثل دخول "بنافة" إلى الغذاء حدثا هاماً، وإن شئتم ثورة ثقافية، فقد كنا في الماضي لا نأكل إلا بعد أن نكون على وشك الموت جوعا، وهكذا أصبحنا نأكل فقط من أجل المتعة، ولقد حول "الزلزال الثقافي"، الشاي من طابعه الدوائي إلى مشروب احتفالي ذي شخصية مستقلة، ليحصل في نهاية السبعينات على لقبه الجميل "شاي المحبة"، وانطمست مع الزمن وصمة الطعام كـ "مفرق للجماعة" ليصبح مؤلفاً لها.
ع - العيش: العيش هو ذلك الرغيف المصنوع من الذرة، والذي يتم اغراقه في الحليب حتى النصف، وهو طبق "اترارزي" وككل ما يأتي من "اترارزة" فإنه "ليس ذلك فقط" بل اسلوب ونمط في الحياة وسلوك وفلسفة عميقة، كما يقال عنه أنه ملطف للطبيعة ومنعش للذهن ومعين على النوم الهادئ والأحلام الجميلة، وبما أنه منافس قديم لكسكس، فإنه على وشك أن يلتحق بـ "آبركط" و بـ "إيكجان" و "امبربل" و "ابمربغج" في متحف الأغذية المنقرضة، ولا نتوقع أن يثور أو يصرخ على هذه الوضعية لأن العيش بارد الطباع ولا يغضب.
لقد جربت العيش طويلاً، وبالرغم من أنهم يصفونه كملطف، فقد كنت بعد تناوله أحس بين جنبي بما يشبه محركات الطائرة ولم أكن أعبر عن شعوري لأن آكل العيش يجب أن يتظاهر بالهدوء حتى لو كانت تغلي فيه البراكين، تلك كانت هي أدبيات العيش حتى أطيح به في انقلاب بتاريخ 10 يوليو 1978.
ك - الكسكس: هو طبق ازداد شيئاً فشيئاً وزنه السياسي منذ 10 يوليو 1978 كما أنه يعتبر العدو اللدود للعيش، وللتذكير فإن هناك شروخا عدة قسمت المجتمع الموريتاني منها:
- التفرقة بين البداة وسكان الحضر
- التمييز بين القبائل المحاربة والمرابطية
- التفرقة العرقية بين العرب والزنوج
- الشرخ العميق بين الذين يتعيشون بالكسكس والذين "يبردون" محركاتهم بالعيش.
إن "الكسكس" أكثر اجتماعية من "العيش" فهو يؤكل جماعياً في حين "العيش" يؤكل انفرادياً، كما أن "الكسكس" عند اعداده تكون هناك جماعة "تدردش" وتفكر حول العالم تطويه وتنشره في انتظار الأطباق الجاهزة، في حين أن "العيش" يؤكل في أي وقت ويذهب صاحبه مباشرة بعد ذلك إلى النوم، بينما يفتتح "الكسكس" السهرة ويعقبه شاي طويل قُررّت وحُسمت حوله جميع القضايا الهامة في حياة الموريتانيين على مدى العقود الأخيرة.
إن وصول مناصري "الكسكس" إلى السلطة في الانقلاب الذي أطاح بـ "العيش" أعطى دفعاً كبيراً لهذا الغذاء الذي كانت تلصق به سمعة سيئة بأنه "خرسانة مسلحة" وهي في الواقع مادة له، ثقلها وملمسها وأحيانا لونها وغالبا طعمها.
سأحاول مستقبلاً مواصلة هذا "الخطاب السياسي المرجلي" الذي تعمم من خلال الزيارات (بدل استعمال الزورات لأن الأمر أصبح هنا أكثر قرباً إلى الصوفية منه للسياسة) التي يقوم بها الرئيس إلى الداخل (وهو مصطلح أكثر تعبيراً عن البعد الصوفي للقضية).
ملاحظة: القاموس المطبخي الموريتاني ينتهي عند ثلاثة أحرف.