سنحاول هنا، كما فعلنا في الحلقات الماضية، أن نسرد الأشهر الثلاثة التي احتجبنا خلالها عن الصدور (حظرت جريدة القلم لمدة ثلاثة أشهر ابريل 1999) إثر قرار توقيفنا لتلك المدة. تحدثنا عن زيارات الرئيس للترارزة وللحوض الشرقي، وخروج بطرس غالي من الأمم المتحدة، وأشياء أخرى بعضها هام والبعض دون ذلك، إلا أننا لا يمكن إلا أن نتكلم عن الانجازات «العملاقة» للرئيس معاوية، تلك الانجازات التي يميل البعض إلى التحدث عنها بإسهاب أكثر فأكثر، ولا ندري لماذا؟
أول هذه «الانجازات» التي يرى البعض، أيضاً، أنها كثيرة ورائعة هي الديمقراطية، هذا الإنجاز الذي لا نملك إلا أن نهنئ أنفسنا عليه، والذي لولاه ما كنا موجودين هنا اليوم، حتى وإن كان وجودنا هنا عبارة عن سلسلة من الغيابات الطويلة التي انتهى آخرها منذ أيام، لكن لنهنئ أنفسنا على كل حال، فغياب الأشهر الثلاثة الأخيرة كان بالإمكان أن يكون نهائياً أو أن لا يكون أصلاً، وهو أمر من شأنه أن يحرمنا من تقدير القيمة الحقيقية لحرية التعبير، وبالتالي عدم تقدير الكرم اللامتناهي لقادتنا المستنيرين والغالين جداً علينا، الذين ينوروننا حتى يخطفوا أبصارنا ويحبوننا حتى نختنق، ما أجمل الحب وما أجل النور، ذلك النور الذي هو الإنجاز الثاني.
إن الإنارة هي كهربة المدن الثلاث عشرة الرئيسية والمدينتين الأخريين، والنتيجة مهمة وباهرة وتُرى من على سطح القمر، وإذا كان سكان القمر أغبياء كما يعتقد أهل الأرض، فإنهم لا شك يتساءلون كل ليلة عن هذه الكواكب الوهاجة الجديدة التي ظهرت على الأرض، وربما سيكتشفون في ما بعد أن تلك هي بوتلميت وتنبدغة، كرو، النعمة، وكيفة، وهي بدون شك أقل شاعرية من «الزهرة» و«المشتري» و«زحل» و«المريخ» إلا أنها على كل حال أسهل كهربة منها.
كانت للتلفزة الوطنية ربورتاجات عرفنا من خلالها أن النور مفيد وجميل وأنه يمكن للأطفال مراجعة دروسهم في الليل دون أن يبتلعوا دخان مصابيح البترول أو روائح الشمع المذاب، وطبعا نحن نصدق ما قالته التلفزة الوطنية ونرى معها أنه من المفيد مراجعة الدروس، وأن من قال غير ذلك ولد كسول وصبي طائش إلا أننا مع كوننا لا نحب التلفزة ولا «مراجعة الدروس» نرى أنه كان من الأجدر أولاً إنارة «قادتنا» لأنه ما في المدينة -ولا في المدن الثلاث عشرة- أحوج منهم إلى التنوير.
إنجاز آخر، عملاق أيضاً، هو «دومسات» وهو شيء القصد منه ربط المدن في ما بينها بالهاتف والفاكس، كما أنه يسمح بالتقاط برامج التلفزة الوطنية وإذاعة موريتانيا على الموجة الترددية. إن هذا الإنجاز فعلاً يستحق التصفيق، إلا أني كنت أود أن يكون قد أعطى للناس مع الهاتف والفاكس، ما يراد منهم أن يكتبوه أو يقولوه، وأن لا تفرض عليهم برامج الإذاعة والتلفزة الوطتية، وعندها لن يكون الإنجاز إلا أضخم وأهم، فانواكشوط بسطت سلطتها على البلد حتى الآن بالصمت، وعندما يكتشف المواطنون فجأة حقيقة الأمر، فسيصابون بالهلع، كما أنه لا داعي أن نطلع باقي البلد على ما يحدث هنا، إذن رجاءً، لنحتفظ لأنفسنا بملتقياتنا وورشاتنا التكوينية وخطاباتنا المتهجاة، و«قيادتنا» وضيوفنا الكرام وتسلمنا الهدايا من الدول الشقيقة والصديقة.
إنجاز آخر كثيراً ما يرد ذكره وهو محو الأمية، أي باختصار تعليم القراءة ومن ثم الكتابة لوزراء، لا شيء يؤهلهم للعمل الذهني، وهي مهمة غير سهلة، ولذلك انشئت وزارة مكلفة بها. وقد كللت جهودها بالنجاح، فخلال العشرية الأخيرة، أصبح بإمكان نصف الوزراء أن يقرأوا ويكتبوا العربية حتى، وإن كانت بخط كبير إلا أنها على كلٍ بداية مشجعة، وسوف يتمكنون قريباً من المرور إلى الثانية وهي الفرنسية، وسوف تتم إقالتهم عندما يكملون محو أميتهم.
بعد محو الأمية يأتي انجاز آخر هو الزراعة المروية، ومع أني لا أحب الزراعة فسوف أتكلم عنها لأقول إنها أشياء تنبت عندما تأتيها أشياء أخرى وتؤثر فيها ألخ.. وبالمناسبة أتحدث عن تجربتي الوحيدة في الزراعة، فذات مرة بذرت حبة فاصوليا وبعد ثلاثة أيام رأيت ورقة ثم ورقتين، ثم ثلاثاً، وبعد أسبوعين أربع أوراق، وبما أني لا أريد أن أقضي حياتي وأنا أراقب نبات أوراق الفاصوليا، قررت استرجاع الحبة التي زرعت، ولما نتفت النبتة لم أعثر على شيء، ولهذا لم أستطع الاستفادة من القرض الزراعي، لكن لا بأس ربما أستفيد من القرض البحري، لأني لم أُجرِ أبداً تجربة بذر الأسماك.
إن رئيس الجمهورية «أنجز» المرأة كذلك، أي أنه منحها «التقدم» كما قيل لنا، والدليل على ذلك أنه ألقى خطابا أقل ما يقال عنه انه «تاريخي» وذلك بتاريخ 5 مارس في «النعمة» على ما أعتقد، وما أكثر الاعتقاد هذه الأيام، وابتداء من خطاب 5 مارس أو 1000 مارس لأن 5 قليلة على خطاب بهذا الحجم، بدأت انطلاقة «المرأة» نحو «التقدم» وبقي الرجل للأسف لم يبرح مكانه لأنه لم يسمع الخطاب فهو ليس موجها له، إلا أنه مع ثورة «دومسات» يمكن أن نخبره بواسطة الهاتف حتى يلتحق بالركب.
انجاز آخر، عملاق طبعا، هو الطرق في انواكشوط ونحو روصو أو النعمة أو المجرية و المذرذرة، طرق في كل مكان وفي كل اتجاه، صحيح أن الطرق ضرورية لا غنى عنها فهي تمر على أماكن ما كان باستطاعة أحد أن يمر عليها، طرق ذهاب، طرق عودة، لكن إلى أين يؤدي كل هذا؟ ومهم أيضاً وجودها؟ لكن الأهم أين نقصد؟