من الواقعية السحرية للمناطق الاستوائية إلى «مدينة الواقع الخشن»، الأدب الأميركي اللاتيني غني وخادع كما المنطقة نفسها. غالبًا ما يكون لحس المكان بُعد سياسيّ في الأدب الأميركي اللاتيني. حتى الواقعية السحرية -التي تحظى بمساحات حرية رائعة مع معالم المدن والبلدات، الغابات والأنهار- هي متجذّرة في عالم شخصياتها الممتلئ بالحروب والمحتضر والنابض أيضًا بالحياة.
فعلى مدى خمسة عقود، استعار المؤلفون من أصل إسباني الأفكارَ الأوربيةَ حول عالمهم ونقضوها، عمدوا إلى تكييف المذاهب والأنواع الأدبية المستوردة من الطبيعانية إلى أدب الجريمة إلى تيار الوعي، معيدين صياغتها لإحياء حيوية وتقلبات قارتهم الشابة. إن أفضل الروايات في أدب أميركا اللاتينية هي مثيرة ومغرية كتلك الأماكن الأكثر سحرًا فيها. لم يكن ممكنًا أن أختار عشرًا منها فقط إلا بتخيّل نفسي وأنا أحزم أمتعتي لرحلة بريّة طويلة بأقل حمولة ممكنة، هذا ما كنت سآخذ معي: أرجوحة شبكية مريحة ووسادة متينة.
«السيدة باربارا»: رومولو جاليجوس
قبل «البوم الأميركي اللاتيني» في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، كانت الكتابة «الإقليمية» رائجة في الأدب التي تعاملت مع المكان على أنه شخصية تقريبًا. تشكّل سهول فنزويلا الرطبة خلفية هذه الرواية (لعام 1929م) التي تتحدث عن امرأة قوية في عالم مربي الماشية ورعاة البقر القُساة. يصف جاليجوس بالتفصيل كل رعشة لسعفة نخيل، وكل تموُّجة لتمساح متسلل. ألهمت الرواية، المنسية إلى حد ما على رغم كلاسيكيتها، العديد من الواقعيّين السحريّين اللّاحقين. في عام 1948م، أصبح كاتب الرواية رئيسًا لفنزويلا فيما اعتبِر على نطاق واسع أول انتخابات شرعية فيها. قال بعض النقاد: إن شخصية دونيا باربارا تكهنت بإيفا بيرون، في حين اعتاد هوغو شافيز على تسمية جورج دبليو بوش بـ«سينيور بيليغرو» أو «السيد الخطر» نسبةً إلى الشرّير الإمبريالي في الرواية.
«أرض النار»: سيلفيا إيباراغويري
هذه الرواية التاريخية المميزة، التي نُشرت عام 1998م، تعيد سرد قصة اختطاف جيمي بوتون وثلاثة آخرين من السكان الفوجيين الأصليين من قبل النقيب روبرت فيتزروي التابع لسفينة البيجل البريطانية (HMS Beagle). تنتقل القصة من الجزيرة الكبيرة في الرأس الجنوبي للأرجنتين (وأميركا الجنوبية) إلى إنجلترا -حيث تجري محاولة تحضير بوتون- وأخيرًا إلى جزر فوكلاند. إن تصوير إيباراغويري للندن ديكنزي بشكل مقنع، ولكن الأمر الأكثر إثارة في الرواية هو «الغابات المظلمة» والشواطئ الصخرية في أرض النار، الموطن الوحيد لـ«أقدم شتاء في العالم».
«الحب في زمن الكوليرا»: غابرييل غارسيا ماركيز
مدينة قرطاجنة الكولومبية، التي كانت ذات يوم حامية إسبانية كبرى، وميناء رئيسًا لأسطول البحر الكاريبي الإسباني، غالبًا ما تكتظ الآن بركّاب السفن السياحية، ومن المحتمل أن تكون، بالتعبير المعاصر، أكثر مواقع أميركا اللاتينية جاذبية على الإنستغرام. رواية «الحب في زمن الكوليرا»، التي نُشرت عام 1985م، توظف هذه الرومانسية في قصة حب طال انتظاره، وموقعها الخيالي يستحضر إلى الذهن واجهات قرطاجنة المطلية بالباستيل، وأيضًا أجزاء من مدينة بارانكيا المجاورة على نهر ما جدالينا. مع المانجو الفوّاح والقوارب النهرية والببغاء الثرثار، تكون حكاية أميركية جنوبية نمطية، لكنها أيضًا مبتكرة للغاية، تزخر بالمفارقات الممتعة وبأنواع أدبية متعددة.
«بيت الأرواح»: إيزابيل الليندي
تغطي الرواية الأولى الرائعة للكاتبة التشيلية (عام 1982م) ثلاثة أجيال من عائلة فالي-ترويبا في بلد غير مسمى (التشيلي بوضوح)، وتلطّف الكاتبة من حدّة شعاراتها السياسية ومن شطحاتها الفائقة للطبيعة بملحوظات نفسية عميقة. لا تزال قصة الصراعات الطبقية ذات صلة، وكلارا (التي تمتلك قوى خارقة) وبلانكا وألبا ترويبا (الأم وابنتها وحفيدتها اللواتي يترأسن المنزل الفخري على التوالي) هنّ على الدوام ضيوف آسرين عندما يتنقلون بين توسع سانتياغو والمنطقة الزراعية الحيوية المحيط به.
«ثلاثية هافانا القذرة»: بيدرو خوان غوتيرييز
هذه رواية غاضبة ووقحة وفجّة. الشخصية الرئيسة فيها، بيدرو خوان، هو شخص مقزز بعض الشيء، مضحك جدًّا، وحثالة باعترافه، يعمل بإصلاح أنابيب الصرف الصحي وبفرك الكركند المقطع بالضرب وهو حي، غالبًا دون غسل يديه بين العملين. اللون المحلي للرواية ليس تلك الكليشيه المعتادة عن كوبا السالسا والسيارات الكلاسيكية، وإنما هو واقع القصور القديمة المدمرة بالإعصار حيث توقفت المصاعد عن العمل منذ عقود والسلالم هي أفخاخ للموت. الرواية، التي نُشرت لأول مرة عام 1998م، لا تزال غير متوافرة إلى حد كبير في كوبا، على الرغم من أنها لم تُمنع رسميًّا.
«البيت الأخضر»: ماريو فارغاس يوسا
النثر فيها متشابك مثل غابة مطرية استوائية، هذه الرواية المعقدة والطموحة (عام 1966م) للكاتب البيروفي الحاصل على جائزة نوبل للآداب هي حكاية السياسيين التافهين والبغايا والجنود ورجال الشرطة والراهبات والكهنة وملّاحي النهر وتجار المطاط والمنقبين عن الذهب وغيرها من شخصيات المناطق الريفية النائية من سكان أصليين وبيض، وذلك ضمن قوس هائل من قطع الأراضي التي تصل مدينة إيكيتوس النهرية النائية مع الصحراء الساحلية لشمال غرب البيرو. الأمازون هو المقصود بالعنوان «البيت الأخضر»، وكذلك بيت دعارة خارج مدينة بيورا. الرواية ليست سهلة القراءة- كان فارغاس يوسا «حداثيًّا رفيعًا» في أعماله الأولى- ولكن إذا ما تركت الجمل الطويلة والانطباعية تأخذك معها، فستستمتع بالرحلة.
«الأرض الأرجوانية»: ويليام هدسون
أعجب إرنست همينغواي بتصويرها للمشاهد الطبيعية المحلية. هذه الرواية التي نُشرت باللغة الإنجليزية عام 1885م (كان عنوانها الأصلي الأرض الأرجوانية التي فقدتها إنجلترا) تروي فانتازيا أميركية جنوبية لمغترب فيكتوري (ولد هدسون في الأرجنتين لمستوطنين أميركيين من أصل إنجليزي وإيرلندي). لامب رجل إنجليزي يتزوج من شابة أرجنتينية من دون إذن والدها قبل عبور النهر إلى الأوروغواي، حيث يتورط ببعض حروب الغاوتشو المعقدة ومع بعض النساء المحليات الفوضويات. تصوِّر الرواية، الغنية بالحركة والدراما، الاضطرابات التاريخية لمنطقة ريو دي لا بلاتا خلال منتصف القرن التاسع عشر وتعمل كنوع من الرمز للحضارة والهمجية. هدسون، عالم طبيعة جيد وعالم طيور ممتاز، يُحيي بروايته المناظر الطبيعية للإستانسياز (أراضٍ خاصة واسعة تستخدم للزراعة أو تربية الماشية في المناطق العشبية الجنوبية لأميركا الجنوبية) والسهول المنبسطة وطيور الريّة والغزلان والخيول وقطعان الماشية. شبّه خورخي لويس بورخيس الكتاب بأوديسة هوميروس لقوته «البدائيّة».
«قباطنة الرمال»: جورجي أمادو
تمزج «الروايات الباهية» الست للكاتب البرازيلي الأشهر نوعًا من الواقعية الاجتماعية مع عناصر الحكاية، لكنها تخلو من العاطفة والغرائبية الموجودة في أعماله اللاحقة. هذه القصة التي نُشرت عام 1937م، وهي العمل الأخير في السلسلة، تتبع مطاردات عصابة من الأيتام المشردين والقنافذ حول الساحات المرصوفة بالحصى والأحياء الفقيرة في سلفادور «مدينة سوداء وقديمة». على الرغم من غِناها باللون المحلي (إذ إنّ طفل الشارع هو أفضل من يعرف المدينة) لكن الرواية، كما كتب عنها كولم تويبين في مقدمة طبعة كلاسيكيات بنجوين، «ليست مكتوبة للسيّاح؛ إنها مكتوبة لإعطاء معنى للظلمات، ولإحياء العالم السفلي للمدينة، ولتقديم حياة داخلية للمحرومين والمنبوذين».
«هكذا تخسرها»: جونوت دياز
أحببت حفلة التيس لماريو فارغاس يوسا -حول الأيام الأخيرة لدكتاتور جمهورية الدومينيكان رافائيل تروخيو- ولكن من أجل رحلة ذهنية أكثر تفاؤلًا وعصرية، لا بد أن أختار أحد كتب جونوت دياز. هذه المجموعة من القصص المتصلة فيما بينها التي نشرت عام 2012م، تعمل كنوع من الرواية غير المترابطة. الشخصية الرئيسة فيها، يونيور دي لاس كاسا، يكشف عن خياناته العديدة من أواخر مراهقته إلى سن الرشد، في أثناء رحلات العودة لـ«الوطن» وكذلك في نيوجيرسي التي اتخذها بلدًا له. إن أفراح وآلام تجربة المهاجرين وحياة الأسرة اللاتينية مصوغة بمهارة من خلال نثر متين وآسر، وخلال جميع القصص، تمارس «الجزيرة» قوة مؤثرة في الجسد والعقل.
«أرامل ليلة الخميس»: كلاوديا بينيرو
لا تقرأ هذه الرواية إذا كنت تود زيارة بوينس آيرس الموجودة في كليشيهات الدليل السياحي. الرواية التي نُشرت عام 2005م، تتكشف في النادي الريفي لكاسكايد هايتيس وهو مجمع سكني مسوّر خارج العاصمة الأرجنتينية حيث تعيش العائلات الثرية مثل الأوربيين، بينما يقبع وراء الجدران مجتمع ممزق بالجريمة والفقر، والاقتصاد آخذ في الانهيار. يتزعزع الوهم عندما يُقتل ثلاثة رجال في ظروف غامضة. «الأرامل» في العنوان تعبير مجازي عن زوجات لرجال يمضون ليالي الخميس في لعب الورق والشرب. وإضافة لكونها رواية إثارة رائعة، أرامل ليلة الخميس هي أيضًا مثال مُظلم عن العنف الممنهج والإجرام المعتمد عليه لمجاراة المظاهر.
كريس موس . ترجمة: خولة سليمان