ألبيركامو: شكرًا موتسارت

منذ مئتي عام، موتسارت… ماذا؟ أتراه موتسارت في خضم هذا التاريخ الأكثر جنونًا وتهورًا؟ موتسارت في مقابل الكراهية بالجزائر، والتردي بفرنسا؟ بالضبط! عندما يتأمل العالم ما حاق به، وعندما تهتز هياكل الحضارة، فلعله من النافع أن نعود أدراجنا إلى ما لا يتزعزع عبر التاريخ، إلى ما يجسد الشجاعة، ويؤلف بين ما تفرق، وينشر السلام دون جراح. ما أحرانا أن نتذكر أن عبقرية الإبداع قد تمارس عملها، هي ذاتها، وسط عصر تم تكريسه للدمار. قد تتعرض قوة أوربا المادية للتحدي، والأسوأ من ذلك، أن أوربا ذاتها قد تتعرض للحصار، ومع ذلك، فإنه من المستحيل أن يجري تحدي أوربا، أو مواجهتها، عندما يتعلق الأمر بتلك الأعمال الفنية العظيمة التي تمتلكها، والتي تتجسد في أعمال موتسارت.

صحيح أنه لا الموسيقا، ولا الفنون الأخرى قد حلت قط محل أعمال ونتاج الحضارة المادية، وينطبق ذلك على موتسارت نفسه، فلولا الآلات لما وصل موتسارت إلينا، ولما وصل إلى جمهور لم يكن له أن يحلم به. لكن لا الآلات، ولا القوة المادية يمكنها أن تكون مبدعة في حد ذاتها، وإن كانت تهيئ، بلاريب، للإبداع، عندما لا تقتله. إن المجتمعات المحرومة من الفنانين العظماء قد تسيطر لردح طويل من الزمن، لكنها أبدًا لا تسود.

إن موتسارت يغزونا لكن بطريقة أخرى. وفي هذه الأيام نحتفي به، كما نحتفي بثلة من العمالقة، ولا يتجلى ذلك فقط في تلك الحفلات والاحتفالات التي تصدح فيها أغنية مجد رائعة خلف ظله الذاوي، ولكن كذلك في العديد من المنازل التي يجتمع فيها نفر من الأصدقاء، يوم مولده، ليستمعوا له، وهو يشدو من جديد، بعد قرنين من الزمان. وفي أوربا الخاسرة، يأتي إلينا ذلك الرجل الهش، غريب الأطوار، الذي كان يعرف كيف يمنحنا، بكل سهولة ويسر، صوتًا يمزج الحنان والفرح البريء والغموض المميت. لقد مات وحيدًا، لكن ملايين الأفئدة تستحضره اليوم وتباركه.

إنه عبقري. إنه يسود، دون جهد، بل من دون كدح، ليبرهن لنا على أن العبقري ليس بشخص متشنج، أو غريب، أو رجيم. إن المبدع الحقيقي، على نقيض ذلك، لا يقدم شيئًا سوى عمله الحر. إن موتسارت ليبرهن على أن المبدع ليس مضطرًّا لصياغة نحوه أو صرفه. إنه يتكلم لغة الجميع، ولكنه يضع اللغة التقليدية طوع بنان الاستخدامات الجديدة على نحو غير متوقع. وهذا، على وجه الخصوص، ما يدخله التاريخ. إنه لا ينعزل عن شيء، كما أنه يحتضن في داخله السجل البشري بأسره، من المتعة إلى الانصهار الكامل، متقبلًا عصره كما هو، دون العبث به.

كل شيء إذًا مقدمة للاختراع. إن الطفرة المستمرة من الموضوعات والأشكال الفنية لدى موتسارت قد امتدت على مدى القرنين التاليين. وفي معظم الأحيان، إن ما بدا جديدًا لدى تابعيه، كان هو الذي اخترعه بالفعل. لذا فإن «دون جيوفاني» تتربع على كافة الأعمال الفنية. في ذلك العمل يكمل الكمال والحرية بعضهما بعضًا من دون تعارض. وعندما يصغي المرء بحق لتلك الأغنية، فإنه يرتحل في رحلة حول العالم وحول الذات. ولذا فإن موتسارت ما زال يعد اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، مثلًا يحتذى به. إن إنسان أوربا ليس هو فحسب ذلك الأفّاق التعيس الذي يحتدم مجادلًا في تجمعاتنا السياسية والفكرية، ولا ذلك الأحمق المنتشي بجنون الإهانة والقسوة. إنه أيضًا موتسارت. هناك أيضًا ذلك الحشد الأكثر تواضعًا من الفنانين، الذين يأملون أن يصبح من بينهم، يومًا ما، موتسارت جديد.

 

ترجمة: محمد محمود مصطفى